كم عمر الإسلام؟ أكثر من 1440 سنة.. ومع ذلك فما زلنا نرى للممارسات الوثنية مكانًا بين ممارسات كثير من المسلمين. لا أعني بذلك أنهم يقصدونها أو يتعمدون مخالفة دينهم، بالعكس، فغالبيتهم العظمى إنما تصبغ تلك الأفعال بصبغة التدين والتقرب إلى الله.
خذ عندك مثلاً الظاهرة المتفشية لتقديس بعض القبور والتوسل بمن فيها، كقبور الأولياء والصالحين، هي عبارة عن إحياء صريح لفكرة تقديس العرب أصنامهم قبل الإسلام، فهم لم يعبدوها لذاتها بل ليتقربوا بها إلى الله، أو كما قال الله تعالى في الآية الثالثة من سورة الزمر على لسان من أشركوا به: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلفَى}، تمامًا كما قد يحدث من البعض من مخاطبة الرجل الصالح المدفون والتقرب له؛ اعتقادًا بأن هذا مما يقرّبه إلى الله، تلك الآية التي تبدأ بقوله تعالى: {ألا لله الدين الخالص}، ويتفق المفسرون الثقات أن "لله الدين الخالص" تعني أن كل مظاهر العبادة أو التقرُب إنما هي حق حصري لله تعالى، فلا استغاثة إلا به ولا توسل إلا له.
أما ما يجري من أن يذهب البعض خصيصًا لزيارة قبر فلان من الأولياء؛ للدعاء عنده والتوسل باسمه، فهذا إشراك لبشر في أمر لا يكون إلا لله.. ومع الأسف فإن ممن يقعون في هذا أناس من المتعلمين والمثقفين الذين يفترض أنهم يعرفون حقيقة أن البشر كلهم سواء في النفع والضرر، وأن الإنسان إذا مات ولقي ربه فهو بالتأكيد أكثر انشغالاً عن أن يتهم بشئون البشر ويرفع شكاويهم..
ثم إن الله تعالى لا يحتاج لوسيط فهو القائل: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} [ق: 16]، وأعتقد أنه بعد هذا القول الكريم لا مجال لأن يظن إنسان أنه يحتاج إلى من يرفع حاجته إلى الله.
وما يزيد الطين بلة ما يحيكه مريدو هؤلاء الأولياء من قصص أسطورية، كتلك عن السيد البدوي الذي كان يسافر في ليلة واحدة لمعسكرات الفرنجة ليأتي بالأسرى المسلمين ويعود بهم، ويغنون له "الله الله يا بدوي جاب اليُسرى"أي الله الله البدوي جاء بالأسرى.. أو تلك عن الصحابي أبو الدرداء (أبو الدردار بالرواية السكندرية) الذي هبّ من قبره الواقع في قلب منطقة شعبية سكندرية، وتصدى لطوربيد ألماني أثناء غارة ألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، أو عن قبر الإمام الشافعي الذي يضع بعض أصحاب القضايا فيه صورًا من ملفات قضاياهم لكي -صدّق أو لا تصدّق- ينظر فيها ويقضي مع الملأ الأعلى! (وهذه ظاهرة أرجو أن تكون قد اندثرت)، أو عن قبر الولي الجليل الذي يقع في منتصف طريق عام، وكلما أراد محافظ أو وزير نقله لتوسعة الطريق أصابته مصيبة!
وكلما انتقدت مثل تلك الممارسات اتُّهِمتَ بازدراء الأولياء والصالحين.. سبحان الله، وهل احترامهم يكون بإشراكهم في أمور ليست إلا بيد الله؟ على حد علمي المتواضع فإن احترام الرجل الصالح يكون بتدارس سيرته -المنقولة بشكل موثوق منه عن أناس ثقات- وبتلقي العبرة والعظة من قصصه، وبالتشبه به في جميل خصاله، أما رفعه بشكل مستتر لمصافّ الآلهة بمعاملته أنه يضرّ وينفع ويتوسط بين الخلق والخالق فهذا شطط ما بعده شطط..
وأما افتراض قدرته على النفع والضرر فهو مخالفة لما علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم من أن "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك" (صحيح حسن - رواه الترمذي)، بل ويسبق تلك العبارة من الحديث أمر الرسول عليه الصلاة والسلام لنا: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله".
وسبحان الله، فهناك حديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تنبأ بهذا حين مر بجيش المسلمين على شجرة كان العرب يقدّسونها ويعلّقون عليها سيوفهم اسمها "ذات الأنواط"، فصاح بعض المسلمين: "يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط"، فقال لهم: "لتركبن سنن الذين من قبلكم".. نعم.. فالتقديس لغير الله هو بمثابة انتكاسة للسُنَن الوثنية السابقة، والتي دفع ثمنها الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة جهدهم ودمهم ودموعهم؛ لأجل انتشال البشرية منها والارتقاء بها، بحيث لا يكون بين المخلوق وخالقه -عز وجل- من حاجز أو حاجب أو وسيط..